JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

recent
عاجل
Accueil

عمر خيرت.. موسيقار يعيش فينا

 


قبل أن أكتب عن عمر خيرت، سألت نفسي: لماذا نتأثر بالموسيقى عموما إلى هذا الحد؟

ما الذي يعنيه أن أسمع ترددات لنغمات على آلة فأتأثر.. وأنفعل؟

كيف يحدث هذا؟ كيف يتم؟ كيف يتفاعل في داخلي وداخل ملايين البشر؟، مع أن ما نسمعه لا هو لغة ولا خطابا ولا فكرة، بل مجرد موجات صوتية لآلات؟

بعد تفكير طويل، اهتديت إلى إجابة وحيدة وارتضيتها. ملخصها، أن تفاعلنا مع هذه النغمات غير المفهومة وغير المترجمة، معناها مغروس فينا في الأصل من البداية، وأن هذه الأصوات لا تخبرنا بشيء، بل توقظ معنى داخلنا كان نائما.

هذا هو إنجاز الموسيقى، أنها تحرك المعنى المختبئ، بدون كلام، بدون بيان، بدون تفسير.

وحين فهمت هذا، عرفت ماذا سأكتب عن الموسيقار عمر خيرت، لأن ما أكتبه عنه يخصه وحده، فهو لا عبد الوهاب ولا السنباطي ولا بليغ، لأنه مختلف وحالة خاصة، هؤلاء وغيرهم وصلوا إلى الناس نعم. كانوا عباقرة؟ ألف مليون نعم، لكنهم وصلوا ومعهم الكلمة والصوت الذي يترجم لك العاطفة والمعنى.

أما خيرت، وصل إلينا موسيقيا فقط، بدون كلام.

وصل بموسيقى تصويرية، بموسيقى لا تحمل إلا نغمها.

هذا هو الفارق وهذا هو التحدي الأعظم، أن تصبح جزءا من الذاكرة الوطنية والشعبية بصوت البيانو والوتريات، دون أن يتولى مطرب كبير أو صغير نقل رسالتك.

ولكي أعرف سر عمر خيرت، كان عليّ أولا أن أعرف كيف بدأ ومن أين؟ وجدت أنه بدأ من الإيقاع، كلاعب درامز،  وهذا سره. كيف؟  الدرامز، يعطي صاحبه إحساسا صارما بالزمن، العازف الإيقاعي لا يملك رفاهية الخطأ، نصف ثانية كفيلة بأن تفسد الجملة كلها.

هذا الإحساس الدقيق بالثواني هو بالضبط ما يميز بصمة عمر خيرت في أعماله.

اسمع أي مقطوعة له. ستجد نمطا واحدا في كل أعماله: دخول محسوب، خروج دقيق، تصاعد مضبوط يأتي كل مرة في اللحظة التي يعرفها أنا وأنت وكل من يعرف موسيقاه، وحتى الذي لا يعرفها!.  

كل مقطوعاته فيها شد وإرخاء وارتفاع تدريجي ثم هبوط لطيف، ثم انكماش إلى لحظة بيانو وحيدة التي تثير كل من يستمع إليها، لأنها في الغالب تكون لحظة حب أو شجن.

إنه في كل مقطوعة يسير على نفس هذه الخريطة، ويقود كل هذه الآلات ببراعة وتماسك.

لذا منذ ولادتي، وأنا أسمع جملة مكررة من كثيرين، جملة سهلة ومريحة، تبدو فيها الوجاهة وتصلح لملء فراغ في نقاش فارغ، لكنها في الحقيقة كانت تكشف لي شيئا واحدا: أن قائلها لم يفهم معنى البصمة أصلا.

الجملة هي: "كل أعماله شبه بعض!"

وأنا عادة، عندما أسمع هذا الكلام الفارغ، أهز رأسي وأسكت.

ليس لأن الكلام صحيح، بل لأن الناس مشغولة ومهمومة، وأنا أيضا مشغول وتعبان ومخنوق، والوقت أثمن من أن نضيعه في إقناع شخص بالفرق بين التشابه والهوية.

من العبث في هذا الزمن أن أحدا لديه رفاهية شرح أبجديات الفن في كل نقاش عابر.

لكن بما أنني الآن أكتب مقالا، ولي مساحة رأي، وأتقاضى أجرا نظير هذا العمل، فلا بأس، لن أخسر شيئا إن شرحت الفارق.

لعل واحدا من هؤلاء الذين يرددون الجملة الجاهزة دون أن يفهموها، يمر على هذه الكلمات يوما، ويعرف لأول مرة أن الكلام الذي يقولونه، ليس رأيا،  بل سوء هضم.. هضم فني طبعا، والعلاج هنا أن يفهم!.  

فليس من المنطقى أن ترى شخصا يكتب بخطه الذي أنت تعرفه، فتصر كل مرة أن كل كلامه واحد، لأن الخط واحد!

ليس كل ما يشبه نفسه متشابه، هناك شيء اسمه بصمة، والبصمة تعرّف صاحبها، فتكون الهوية.  

والهوية هي ثبات العناصر مع تغير الفكرة، وما يسمونه تشابها هو في الأساس أسلوب، وهندسة صوتية لها شكلها الخاص، من يسمعها فورا يعرف أنه عمر خيرت، أنه ياسر عبد الرحمن، أنه مودي الإمام!.

وربما ثبات أعمال عمر خيرت على روح البيانو وملمس الوتريات، وبناء الجملة، يصوره الناس على أنه تشابه أي عجز، أو قلة حيلة وفقر إبداعي، مع أن الذي يفعله عمر خيرت هو قمة الإبداع، يقدم هوية نغمية لا يقدر عليها إلا صاحب المدرسة، لا الهاوي، وإلا لما أصبحت موسيقاه جزءا من ذاكرتنا، نسمعها في المناسبات الرسمية كبانوراما أكتوبر، و100 سنة سينما، وفي بيوت الناس العادية التي لا تعرف ما معنى بوليفوني ولا هارموني ولا حتى تعرف اسم الآلات، لكنهم يتلمسون المعنى الغريب الذي يوقظه عمر خيرت بموسيقاه فيهم.

والأعجب في عمر خيرت كموسيقار، أن الناس كلهم ذهبوا إلى حفلاته، من كل الفئات، من كل الطبقات، من كل المدارس، من يسمع أم كلثوم، ومن يسمع عصام صاصا، ومن يسمع موزارت، ومن لا يسمع شيئا أصلا!

ذهبوا إليه لأن عمله صادق، اخترق المعنى، وموسيقاه جزء من ذاكرتهم.

فأنا على سبيل المثال عشت نصف عمري أسمع موسيقى فيلم "خلي بالك من عقلك" في كل مكان، ولا أعرف أنها موسيقى لفيلم، حتى شاهدت الفيلم ولم أحبه، وكأن هناك شيئا شاذا داخل العمل لأن الموسيقى التي عشت نصف عمري أسمعها ارتبطت في وجداني بمعاني أخرى فشعرت أنها في الفيلم غريبة عن المعنى الذي أفهمه وهضمته، وكأنها مقحمة، هذا هو عمر خيرت وموسيقاه المتغلغلة في وجداننا.

موسيقى لا تعترف بطبقات ولا نخب، ولا بالتعالي الثقافي الذي يريد للموسيقى أن تكون حكرا.

لذا تألمت عندما صار خيرت شعبيا بمعنى أنه صار محبوبا، وخرج المتحذلقون يسخرون: "طالما أنه أصبح للجمهور، إذا فموسيقاه مبتذلة ومكررة" وهو منطق مضحك بائس، يكشف جهلا أكثر مما يكشف ذوقا، لأن هؤلاء يريدون موسيقى لا يسمعها كل الناس، حتى لا يشعروا بأن امتيازهم الثقافي مهدد.

يريدون الفن أن يبقى فوق الناس لا بين الناس، لكن الحقيقة هي العكس، أن الفن الذي لا ينزل للناس مهزوم، وأن موسيقى عمر خيرت انتصرت ليس لأنها تنازلت بل لأنها في الحقيقة ارتقت فارتفع الناس معها وهذه أكبر شهادة يمكن أن ينالها موسيقي أو فنان، هو أن يصبح ملكا عاما دون أن يخسر عمقه!. 

ولن أحيلك في أعمال عمر خيرت إلى أي عمل، غير موسيقى فيلم الإرهابي، والتي اختار لها اسما هو "تيمة الحب".

 تخيل معي فيلما يدور حول التطرف والإرهاب، فبدلا من أن يجر موسيقى العمل إلى التوتر السياسي والعنف، والتأليف الحرفي للمشاهد، اتخذ قرار عميقا، بموسيقى ناعمة كلها شجن، وبعد إنساني عميق، تغلغلت في معنى وعمق ما وراء الأحداث، في مواجهة الظلام، بالحب والود والسماحة، تخيل هذا القرار الفني العميق بأن تكون موسيقى هذا العمل تحمل عنوان: تيمة حب!

من يعقلها؟ من يتجرأ عليها؟ فقط عمر خيرت.

 

لكن حقيقة، وإن كنت وصلت معي إلى هذه السطور، أطلب منك حالا أن تذهب إلى يوتيوب وتسمع هذه المقطوعة،  وأخبرني بماذا ستشعر؟ ما المعنى الذي أيقظته بداخلك؟ أليس ما قلته في البداية في مقدمتي؟ إنه المعنى المغروس!.  

 بل أدعوك إلى أن تقرأ التعليقات وستهتز لكل تعليق مكتوب، سترى وطنا كاملا يتذكر نفسه،  ستهتز لهذا الرجل الذي كتب وقال: "بترجعني ٢٥ سنة ورا و لازم أدمع لما أسمعها لأنها بتفكرني بأحلى سنين عمري إللي إتسرقت".

ستنفعل لتعليق هذا المغربي الذي قال: "موسيقى روعة حركت شي بقلبي، كل الحب لإخوانا بمصر".  

ستدمع بكل تأكيد لهذا العراقي الذي كتب: "أنا عراقي كنت في مصر 8 سنوات لما أسمع هاية الموسيقى عيني تدمع وأشتاق لمصر القاهرة بكد اشتياقي لبغداد"، ستعرف معنى ما قلته لك في المقدمة، حين تقرأ أيضا هذا التعليق: "تذكرت طفولتي، بخاف على جيل التمانيات والتسعينيات إنهم يروحوا واحدا ورا التاني، موسيقى من عالم تاني لو عايز تسافر بره دنيتك اسمعها وانسى هلاك الدنيا وتعبها"

هنا لن تملك إلا أن تصمت لأنك أمام أجيال كاملة وجدت نفسها في نغمة!

ولن أزيد، لن أتحدث أكثر من ذلك، لأني إن أسهبت سأنسى نفسي.

والمفارقة المؤلمة، أن هذا الرجل بموسيقاه التي شفتنا جميعا، يصارع الآن المرض في جسده، وليس غريبا أن نقرأ هذا الخبر ونشعر نحوه بشيء يشبه الحب الجماعي، حب صادق، بلا شروط، نحو فنان، نحو رجل قدم لنا موسيقى حمل أرواحنا بها، وأعاد تهذيب داخلنا ولا نعرف كيف!.

 ولهذا، لا نملك اليوم شيئا  في لحظته الإنسانية الأصعب إلا أن نرد الجميل بالدعاء وبالاستماع لأعماله، وبالاعتراف بأن عمر خيرت، كان واحدا من آخر الأصوات التي حافظت على الإنسان داخل الإنسان.

 فاللهم اشفه كما شفى أرواحنا من قبل.

نشر في إصدار حرف التابع لجريدة الدستور العدد 99.

author-img

محمد محمود ثابت

Commentaires
    Aucun commentaire
    Enregistrer un commentaire
      NomE-mailMessage