علاقتي بهذه "الإزازة" تمتد لسنوات طويلة. أتذكرها جيدا في صغري، واقفة بهيبتها في دكان المدرسة الصغير.
هل تعرفون هذا الصوت؟ هل أصف إحساسي لكم حين أسمعه؟ لا لن أستطيع.. ولو أتيتم بأبرع الأدباء ليصف هذا الصوت وإحساسه ووقعه.. لن يستطيع.
لكني سأحاول بدون مبالغة.. ككاتب متواضع الكلمة.
صوت الفسسس.. هو صوت أشبه بانفجار صغير من السعادة، يعلن عن تحرر جيش من الغازات الكامنة، مع دخان أبيض خفيف يتصاعد لثانية، يحمل معه رائحة لا تخطئها الأنف، مزيج مدهش ومبهم من الكراميل والسكر والتاريخ المصنوع ببراعة.
والإزازة غير العلب الصفيح، أرجوك دعك من الصفيح والبلاستيك، وهذه الأجسام الرخوة المعاد تدويرها من القمامة والزبالات، فالمذاق في الإزاز مختلف، معتق، يذكرك بطعم زمن الكولا الأصلي، قبل أن تفسده التكنولوجيا وتسهّل نقله في عبوات بلاستيكية تفقدها نصف غازها ونكهتها قبل أن تصل إلى فمك.
نعم، من فم الإزازة مباشرة شيء آخر، إحساس الإزازة وثقلها نفسه وأنت تمسكها له معنى آخر، إحساس برودة غريبة وهي تلامس الشفاة، برودة محترمة، عميقة، تضمن لك أن الفقاعات التي ستصعد إلى حلقك، هي أجود الفقاعات وأكثرها انتعاشا، هذا الوخز اللذيذ للغازات هو جوهر التجربة، إذ تبدأ فورا الإشارة إلى مراكز الإحساس في المخ بأن الأمور ستكون أفضل، وبالفعل تكون أفضل وأفضل.
يا إلهي، ما زلت أذكر هذا الإحساس في كل صباح، قبل أن تطأ قدماي "حوش المدرسة"، كانت هي طقس الإفطار الأول.. على الريق.
نعم، كانت أول ما يلامس جوفي، كانت منعشة تطرد غباء النوم من وجهي.
مازلت أذكر صوت ارتطامها في الصندوق بعد إعادتها للحصول على الرهن، كان صوت الارتطام أشبه بالنغمة الأخيرة في وقفة ما قبل نهاية سيمفونية عظيمة، حيث تسكن كل الآلات في لحظة صمت مشحون، ثم ينفجر العازفون مرة واحدة في اندفاعة أخيرة خاطفة، ثوان معدودة من الجنون المنظم قبل النهاية.
وهكذا كنت. أضع الإزازة وأسمع صوت ارتطامها، وأحبس أنفاسي في لحظة صمت قاتلة، ثم تتبعها "تكريعة" مهيبة، كأنها تباركني، وتمنحني جناحين لأطير بهما إلى جنة الرضوان!