ترامب، بعادته القديمة، يتحدث وكأنه يرسم خرائط العالم بأصابعه. هذا الرجل يتحدث الآن عن حل لمأساة غزة وكأنه يرمي اقتراحا عبيطا في قعدة على قهوة بلدي. والأصوات هنا في مصر انقسمت كالعادة: جزء يثق في القيادة السياسية، وجزء آخر يتغنّى بصمود المقاومة التي انتصرت وفرضت إرادتها -على حسب رؤيتهم- ومع ذلك يطالبون السيسي أن يرفض قرار التهجير!
وهو تناقض يكشف حجم الضياع العقلي لدى هؤلاء، فكان الأولى بهم أن يطلبوا ذلك من المنتصر في نظرهم!.
وبعيدا عن هذا الجدل. فالحقيقة في نظري، أن فكرة التهجير ليست جديدة، وليست حتى مفروضة بقوة السلاح!
هي بالأحرى جزء من لعبة الإغراءات التي تُمارَس على مصر منذ عقود، تماما كما حدث بعد تحرير الكويت، حين كان دعم مصر في أزمتها الاقتصادية مكافأة من تحت الترابيزة على مشاركتها في التحالف الدولي.
الفرق هذه المرة هو أن الظرف مختلف.
مصر اليوم، رغم أزمتها الاقتصادية، ليست في موقف من يقبل الضغوط مقابل الإغراءات لأنها ستتحمل عبئا أزليا بطرد الفلسطينيين من أرضهم.. حتى وإن استضفتهم وأكرمتهم على أرضها!
وهنا أسأل وأرجو أن تجيبوني: إذا كان الهدف هو تهجير سكان غزة، فلماذا لا يتم تهجيرهم إلى مناطق أبعد؟ لماذا يصر ترامب على الزج بمصر؟ أليس من الأسهل أن يقترح عليه السيسي نقلهم إلى مناطق في دول أخرى؟ أين اقتراح إندونيسيا وألبانيا! لماذا لا نرسلهم للجولاني مثلا؟ وهو الرجل الذي استباحت إسرائيل أرضه ولم ينطق بكلمة!
لذا وأكثر هناك حلول أسهل بكثير من مصر!
فلماذا الزج باسمها؟
أترك لكم الإجابة
على جانب آخر، المسؤول المصري الذي اختار أن يتعامل مع الملف بوقار ودبلوماسية وشرف كمال قال سابقا، يبدو هادئا، ربما تبدو تصريحاته أيضا هادئة، لكنها ذكية وفي السوادة كما نقول.
حين يقول السيسي مثلا بهدوء: “عندكم صحراء النقب، حلوا مشاكلكم فيها”، فهو يقفل اللعبة ويلقي بكرة النار إلى ملعب الآخر. كانت رسالته واضحة بأن مصر لن تقبل بأن تكون طرفا في هذه اللعبة المخرّية.
لكن بعيدا عن السياسة، المأساة الإنسانية في غزة لا تفارق عقلي ولا قلبي، وهي اهتمامي الأكبر.
ملايين الناس يعيشون ظروفا أقل ما توصف به أنها كارثية. وآخرون يلوموهم حين يصرخون “بدنا نعيش”؟ هل يجوز أن نستمر في المزايدة على أحلامهم البسيطة؟ ألم نكتف من الخسة والرخص؟
هؤلاء الضحايا، صاروا محاصرين بين فكي المقاومة التي تتغنى بالانتصار ومشعوذيها، والعدو الذي يفرض شروطه بالنار.
منتهى الألم!
وعلى من يدّعون الانتصار أن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه شعبهم.
نقطة وانتهت.
أما مصر، فهي لم تعد تقبل أن تكون ساحة لتصفية الحسابات أو حلا سهلا لمشاكل الآخرين.
التحدي أمام القيادة المصرية كبير، لكن الرسالة التي تتكرر هنا هي أن مصر لا تزال تدرك مكانتها، وتعرف كيف تقول “لا” حينما يكون الأمر متعلقا بسيادتها.
وتبقى مصر شامخة، ثابتة على موقفها، حتى وإن طالت محاولات الابتزاز والأذى.