فى نهاية السبعينيات، جاء الطالب جابر جاد نصار، من محافظة دمياط إلى جامعة
القاهرة، متخبطا فى أحلامه وطموحاته، غريبا فى أرض لا يعرف بها أحدا.
دخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولم
يندمج بها، لم تستفزه، ولم يجد بين جدرانها طموحاته، فداعبت دراسة القانون مخيلته،
فانضم إلى كلية الحقوق دون علم والديه، وحقق نجاحا وتفوقا كبيرا، فأصبح أستاذا
بها، ثم رئيسا للجامعة كلها.
الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، صاحب سيرة
كبيرة، وقصة كفاح طويلة، لم يصل إلى هذه المكانة فى يوم وليلة، إنما سبقها جهد
وعمل ومصاعب وليالٍ كثيرة طويلة ومرهقة. فمهما اختلفت أو اتفقت على شخصه واتجاهاته
وأدائه كرجل فى منصب عام.. عليك أن تذكر ذلك.. ولا تنكره.
تحدث «نصار» لى عن سيرته وذكرياته، منذ أن دبت
قدماه أرض القاهرة، ودخوله إلى الجامعة طالبا، حتى صار رئيسا لها.
قال إن رئاسة الجامعة، لم تخطر بباله لحظة، ولم
يتمن سوى أن يكون أستاذا بها، يعلّم أجيالا ويضيف لهم، ويؤثر فيهم، كما أثّر فيه
عدد كبير من الأساتذة حين كان طالبا بكلية الحقوق، مثل الدكتور نعمان جمعة،
والدكتور فتحي سرور، والدكتور ثروت بدوي.
وعن أول لحظة رأى فيها قبة الجامعة، أكد لى أنه ما
زال يذكر أول لحظة رأى فيها القبة، وأن الشعور الذي وصل له وقتها، هو الشعور
بالعظمة والفخامة، مشيرًا إلى أنه لم يتغيب عن محاضرة واحدة، حين كان طالبا، وكان
الأول على دفعته طوال الأربع سنوات.
وكان لي معه ذلك الحوار، الذي كشف فيه عن الوجه
الآخر له:-
سألته: طالب عاش طوال حياته فى الأرياف بين أهله وناسه..
ثم فجأة وجد نفسه يعيش فى المدينة وحده.. حدثني عن هذه المفارقة والشعور
الذي انتابك فى أول يوم لك بالقاهرة؟
قال: نعم.. التناقضات كانت كثيرة جدا، وأصابني ذلك بصدمة، فالصورة
مختلفة تماما عن قريتي «شرباص» بدمياط، فى كل شيء؛ سواء المناخ الثقافي والتعليمي
أو الاجتماعي. لكن دعنى أقول لك، وأؤكد أن الغربة وفراق أهلى، دفعونني إلى الأمام.
وذلك ما جعلني أتمسك بالأمل الذي جئت من أجله وأردت تحقيقه.
قلت: أعلم أن القبة لها سحرها.. خاصة وإن كنت تقف
أمامها لأول مرة.. فماذا كان شعورك عندما رأيتها أمامك؟
فأجاب: الصورة ما زالت فى ذهني تماما، كان شعوري غريبا
عندما دخلت بقدمي إلى باب الجامعة. انتابني إحساس بعظمة المكان وفخامة مبانيه.
فأنا الآن أقف أسفل أقدم جامعة فى مصر والوطن العربي، التى أخرجت أجيالا عظماء.
وأخذ يستطرد فى حديثه بشغف: سألت نفسي : هل هذه القبة التى كان يجلس بها
أحمد لطفي السيد؟ ثم نظرت ناحية اليمين.. هل هذه كلية الآداب التى كان رئيسها عميد
الأدب العربي طه حسين؟ معقول أن أقدامي تقف الآن على نفس الأرض التى دبت عليها خطى
هؤلاء؟!. إنه شعور عظيم.. أقسم لك أنني لا يمكنني وصفه.
سألته وأنا مستمر فى استعادة الماضي معه.. عن
اللحظات الأولى.. والنظرة الأولى.. فقلت: حدثني عن أول محاضرة لك؟ لمن كانت؟ وعن
ماذا كانت؟
قال: أيامي الأولى فى الجامعة كانت بكلية الاقتصاد
والعلوم السياسية، هذا ما أريد أن أنبهك إليه وأعلمك به. فأنا لم أنضم إلى كلية
الحقوق فى البداية، وظللت شهرين بكلية الاقتصاد. وقبل أن تسألني لماذا لم أدخل إلى
كلية الحقوق مباشرة؟. سأقول لك إن والدي كان معارضا لدخولى كلية الحقوق؛ لأن سمعة
الدراسة بالكلية كانت سيئة، وما زالت حتى الآن، فكثير من الطلاب لا يفلحون بها.
أما حُلم أبي، فهو أن أدخل إلى كلية التربية،
وأكون مدرسا وقريبا منه فى قريتنا. فأنا ابنه الوحيد، ولم يكن لدي القدرة على
مخالفته. لكننا اتفقنا فى النهاية على دخول كلية الاقتصاد، ولكنى لم أستمر بها
وانضممت لكلية الحقوق دون علمه.
أما عن أول محاضرة أذكرها داخل كلية الحقوق، فكانت
للدكتور نعمان جمعة، وكانت بعنوان مدخل إلى علم القانون.
قلت: متى علم والدك أنك تدرس فى الحقوق.. وماذا
كان رد فعله؟
قال:هذه أيضا مفارقة جميلة؛ لأن أبي علم بالصدفة أنني أدرس بكلية
الحقوق، عندما نشرت الجرائد اسمي بأنني من أوائل كلية الحقوق بجامعة القاهرة، فهو
كان يظن طوال دراستي أنني فى كلية الاقتصاد. لكن عندما رأى اسمي ضمن الأوائل،
بالتأكيد كانت صدمة له، لكنه كان سعيدا بي، وكنت أنا فى لحظة لا يمكن أن أصفها من
سعادة وفرح.
هنا كان يجب أن أقف لحظة.. لأن إحساسا
وصل لي بأنه كان شابا متخبطا لا يعرف ماذا يريد.. فسألته: أنت كنت متخبطا.. ليس لك
هدف.. هل هذا صحيح؟
جزء من كلامك صحيح، لكن كنت فعلا متخبطا، وطبيعي
فى أي سن لأي شاب فى هذه المرحلة، أن يرى ويقترب ويجرب ويتعلم، ثم يحدد الأمر الذي
يرتاح إليه. وأنا كنت أرتاح إلى دراسة القانون، لكن كان مجرد ارتياح وليست رغبة أو
حُلما.
سألته: ما سر ارتياحك إلى دراسة القانون فى سن
صغيرة مثل تلك.. وبالمناسبة هل كنت فى شعبة الأدبي أم العلمي بالثانوية العامة؟
قال: سؤالك هذا يعيدني إلى سؤالك الأخير.. بأنني كنت متخبطا.. فقبل أن
أميل إلى دراسة القانون.. كان تشغلني دائما الدراسة بكلية الصيدلة.. لكن مشكلة
حدثت بيني وبين أستاذ الرياضيات غيّرت مساري.. وانضممت لشعبة الأدبي بسببه.
أما عن الجزء الأول من سؤالك.. فالإجابة عنه
مفارقة كبرى..
واستكمل: عشقي بالتحديد لدراسة القانون، تسرب لي فى
أثناء صيدي للأسماك بنهر النيل، ففى مرة كنت أجلس اصطاد الأسماك، ووجدت شابا
بجانبي، وكان يدرس بالفرقة الأولى بكلية الحقوق جامعة عين شمس، فتعرفت عليه، وصرنا
أصدقاء، وأعطاني كتابا فى القانون وعلم الجريمة. كان ذلك الكتاب للدكتور رؤوف
عبيد، أعدت قراءته أكثر من مرة، فالأسلوب كان جميلا.. والعرض أروع.. ومن هنا بدأ
عشقي لدراسة القانون.
سألته: أريد أن أعرف.. هل كانت وجهة نظر والدك
صحيحة عن كلية الحقوق؟
أجاب: يمكن أن نقول إنها كانت أقرب إلى الصواب،
لأن عدد الدفعة الواحدة كان 4 آلاف طالبا، ولم يكن و قتها موجودا ما يسمى بشعبة
"أ" و"ب" كما هو موجود الآن، وكانت المدرجات مكتظة ومزدحمة..
والاستيعات صعب.. لكن وجود أساتذة مثل فتحي سرور وثروت بدوى، هوّن الأمر عليَّ
جدا.. فكانوا إذا دخلوا.. تسرب لي شعور بالعظمة.. وكان تأثيرهم عميقا فى شخصيتي.
قلت: هل تتفق معي فى أن نموذج الأستاذ الجامعي.. مثل فتحي سرور
ونعمان جمعة ومفيد شهاب وغيرهم.. نفتقده الآن؟
أجاب مؤكدا: أتفق بشدة.. هؤلاء كانوا عمالقة وقمم ونموذج
يهابه الطلاب احتراما لقامته وعلمه.. وهذا النموذج قل الآن.. لكنه موجود.. وأنا
أحاول جاهدا أن أعود بقيمة الأستاذ الجامعي مرة أخرى.
وكيف كنت تتعامل معهم؟ سؤالا
له
أجاب: لم أتغيب عن محاضرة واحدة طوال حياتي وأنا
طالب.. وكنت دائما أحاول بقدر الإمكان أن أستفيد من وقتي.. وكنت أذهب إلى أساتذتي
وأتعرف عليهم.. وأتحدث معهم.. فأقترب منهم.. فالمعاملة بيننا كانت طيبة جدا وفى
حدودها.
سألته وكان يشغلني هذا السؤال.. فإحدى الزميلات قبل
إجراء الحوار قالت لي.. اسأله كيف كان يقضى وقته كطالب فى الجامعة.. ماذا كان
يفعل؟
فأجابني: طوال أربع سنوات فى
القاهرة.. لم أعرف شيئا سوى المدينة الجامعية والأتوبيس الذي يذهب إلى دمياط فى
الإجازة. لا خرجت ولا مشيت فى شوارع القاهرة والجيزة طوال هذه الفترة. كنت منضبطا،
وأؤدي عملي باتقان، ولم أتغيب عن محاضرة واحدة.
وأضاف: لك أن تتخيل كيف كنت أرفه عن نفسي فى يوم الجمعة؟ كنت أسير فى الحدائق وأجلس مع الأصدقاء ولا أذاكر، وكنت أقرأ فى المجالات الأخرى. إن الفرق بين جيلي وجيلكم كبير جدا فى كل شيء.
قلت: وهل تخيلت أن تكون رئيسا للقبة فى يوم من
الأيام؟
قال: لم أتخيل ذلك قط، ولم يخطر على بالي، فأنا بطبيعتي
لا أحب الوظائف الإدارية، ولا أميل إلى العمل النمطي، لأنه يقتل الإبداع.
لكن عندما تم فتح باب الانتخاب، ترشحت، ووجدت أنه الوقت الملائم أن أقدم شيئا لهذه الجامعة من خلال هذا المكان، ووجدت أن الجو أصبح مهيئا لأحقق هذا الحلم، وأخدم الجامعة التي أعشقها.
لكن عندما تم فتح باب الانتخاب، ترشحت، ووجدت أنه الوقت الملائم أن أقدم شيئا لهذه الجامعة من خلال هذا المكان، ووجدت أن الجو أصبح مهيئا لأحقق هذا الحلم، وأخدم الجامعة التي أعشقها.
هنا كان الحوار يجب أن يأخذ مسارا آخر.. فسألته عن
عائلته وأسرته.. وحبه الشديد لوالدته.. الذي يعبر عنه فى كل كلمة يقولها سواء فى
احتفال.. أو لقاء تلفزيوني.. فقلت: لن أسألك عن حبك لوالدتك.. هذا شيء طبيعي..
كلنا نحب أمهاتنا.. لكن أريد أن أعرف رد فعلها.. عندما عرفت أنك أصبحت فى ذلك
المنصب.. رئيسا للجامعة؟
قال: أود أن أقول إن دعوات أمي أطال الله فى عمرها.. هي السبب لما أنا
فيه.. ولولاها لم أكن شيئا. فحنانها هو من أدخل إلى قلبي الحنان والرضا والرقة فى
الشعور والوجدان فى القلب.. لذلك كنت مطيعا لها..لأن عدم طاعة الوالدين تورث غلظة
القلب والجفاء.. أما عن سؤالك.. فأول شيء فعلته عند تولي المنصب.. هو أنني ذهبت
لها وقبلت يديها.. فبكت ودعت لي أن يوفقني الله.. فالمسئولية كبيرة.. وأنت وكل
زملائك تعرفون المشاكل التى تواجهني.
فسألته: كلمني عن عائلتك وأسرتك الحالية.. فقال: أنا كنت الولد الوحيد فى أسرتي.. وكان لدي أربع
بنات إخوات.. وأخ.. لكنه مات فى حرب الاستنزاف.. ومات ثلاة بنات فى سن العاشرة..
لم يتبق سوى أنا وأخت واحدة.. لذلك علاقتي بأمي وأسرتي دائما شديدة الخصوصية. أما
الآن فأنا لدي ولدان.. كلاهما حاصلان على ليسانس الحقوق.. الأول يعمل وكيلا للنائب
العام.. والثاني فى طريقه للتعيين بأحد الهيئات القضائية الكبرى.. ولدي بنت صغيرة
فى الصف الثاني الثانوي.
وفى نهاية الحوار.. تكلمنا عن الحب.. والغراميات..
فسألته: هل كان لك تجربة حب أو إعجاب بالجامعة؟
قال: أنا ابن الريف وتعلمت أن أحترم البنت، ولا أغامر فى أي علاقات
إنسانية، وبطبيعتي وأنا طالب لم أفكر فى الحب، ربما كانت هناك مشاعر إعجاب بفتاة
فى الجامعة، لكن لم أظهرها ولم أعلن عنها، لكن عندما أخذت القرار فى
الارتباط، كانت هناك حسابات أخرى، وتزوجت فورا، من سيدة فاضلة حاصلة على بكالوريوس
تجارة وليسانس حقوق وهي أم أولادي الآن وأحبها كثيرا.
هذا الحوار.. نُشر فى جريدة صوت الجامعة الصادرة عن
كلية الإعلام جامعة القاهرة