دون مقدمات.. سر حب الناس لأحمد مكى هو أنه يشبه
المصريين فى بساطتهم وطبيعتهم، ما زال حتى يومنا هذا يتعامل مع النجومية وكأنها
شىء ثانوى، مجرد مساحة أكبر ليعرض فيها أفكاره الاستثنائية ومواهبه المتعددة.
بكل بساطة، لم يتأثر «مكى» بنجوميته للدرجة التى
تجعله يبتعد، بل يؤكد دائمًا أنه لا يزال ابن عمارات المنتصر فى منطقة الطالبية
بالهرم، التى نشأ فيها وتربى وخرجت منها شخصيته التى نراها اليوم. لذا يألفه الناس
ويأنسونه، وهذا لا يعنى التقليل منه، بالعكس، هذه التركيبة يحسده عليها كبار
النجوم والفنانين، فهل يتمنى أى فنان أكثر من ذلك؟
استطاع
«مكى» أن يشق طريقه وسط أمواج عالية، شديدة وقاسية، حتى وصل فى النهاية إلى مكانه
الذى يستحقه، وكانت البداية الحقيقية له حين انفجر كالقنبلة بشخصية «دبور» التى
كانت نقطة الانطلاق لفنان مدهش وغير متوقع. نعم، هو فنان مدهش يحمل فى داخله
عمقًا، هذا العمق قد لا يظهر للجمهور بشكل مباشر، لكن يمكن أن تستدل عليه بنظرة
دقيقة للشخصيات المتنوعة التى يقدمها، فهى رغم «عبطها» و«هبلها» وذكائها المحدود
التى تجعلك تضحك عليها ومنها، فإنها تعبّر عن معانٍ نبيلة وكبيرة على المستوى
الإنسانى.. وعلى مستوى الحياة ككل.. التى تضخمت بالشر والأذى والمصائب، بينما ما
زال هناك من يواجهها بالقلب الطيب والبراءة والنقاء والتلقائية كشخصيات «مكى».
أول فيلم قدمه كان البطل «دبانة».. وعادل
إمام صاحب الفضل فى نجوميته
تخيل أنك أمام طالب فى معهد السينما، يطلب منه
أساتذته أن يخرج فيلمًا قصيرًا فى أول سنة دراسية، فيذهب ليفكر ثم يعود بفيلم
البطل الأول والأخير فيه «ذبابة»!. نعم، كان أول أعمال أحمد مكى فى قسم الإخراج
فيلم عنوانه «إززز»، يتناول طبيعة حياة «ذبابة»، حركاتها، سكونها، فرحها، حزنها
وحتى رخامتها على البشرية، ليؤكد أنه مبدع، والمبدعون مدهشون، لذلك يحلق دائمًا
بعيدًا عن أفكار الناس وخيالاتهم.
وهنا يجب أن تكون لنا وقفة، هذه القصة، التى
يرويها مكى، عكست طبيعة دماغه الذى يعيش به حتى الآن، هذا الدماغ ساعده على أن
يقتحم الأسوار العالية ويكون نجم نجوم الصفوف الأولى، كما تدلنا القصة أيضًا على
طبيعة شخصيته الجريئة والمغامرة والتى تبدو خطواتها بطيئة، إلا أنها تعكس ما
وراءها من فن يخلق الدهشة والذهول، بشخصياته المبتكرة التى يراها الجمهور لأول مرة.
ورغم أن دراسته الأساسية هى الإخراج، فإن التمثيل
قد خطفه، فبدأ بأدوار صغيرة فى أفلام مثل «ابن عز» مع علاء ولى الدين، ثم بظهوره
فى مشاهد صغيرة فى فيلم «تيتو» مع أحمد السقا، ثم دور «زغلول» شاب من منطقة
«أبوقتادة» فى فيلم «ليلة البيبى دول»، حتى جاءته الفرصة ليقدم شخصية «دبور» فى
فيلم «تامر وشوقية»، التى أعجب بها عادل إمام، فطلبه معه فى فيلم «مرجان أحمد
مرجان»، لتنفجر بعدها نجوميته ويقدم فيلمه الأول «إتش دبور». أحمد مكى يقول:
«الحقيقة صاحب الفضل على نجوميتى هو الفنان عادل إمام، هو من قدمنى للجمهور
وأعطانى دفعة للأمام، ساعدنى جدًا، ولولا وجوده ما كنت حققت الذى حققته، فهو رجل
عظيم، يساعد الشباب ويقدمهم ولا يبخل عليهم».
تجربة المرض غيَّرت حياته: بحمد ربنا لأنه
فرملنى
أصيب «مكى» بفيروس نادر الذى يعرف بـ«داء
التقبيل»، هذا الفيروس قد نقل له عن طريق مشاركته زجاجه مياه خلال التمرين، دمرت
حياته تمامًا، وبسبب العلاج الخاطئ فى البداية تدهورت حالته أكثر فأكثر.
يحكى تجربة مرضه ويقول: «أنا لما أقول إنى موجوع،
ده يعنى إن فيه حاجة مش طبيعية، لأنى شخص حمول جدًا، واللى حاصللى كنت شاكك فى
البداية إنه مرض خبيث، فيروس مكانش له علاج ضرب أعضاء مهمة فى الجسم زى الكبد
والطحال، ومبقتش آكل إلا عن طريق المحاليل، وكنت بنام بـ٢٢ ساعة».
يضيف: «المرض غيّر فيا حاجات كتير، عرفنى إن
الإنسان ولا حاجة، قدامى التلاجة فيها كل ما لذ وطاب، لكنى مش قادر آكل، قدامى
ابنى لكن مش قادر ألمسه، جسمى كان قويًا، لكنى راقد زى الخشبة، اتغيرت تمامًا بعد
المرض، وبطلت سجاير، ومصيبة أى إنسان إنه يألف النعمة اللى فى إيده، لأنه مش
هيقدرها إلا لما تروح منه».
وتابع: «المرض ده سبب نجاحى وتحولى، وبداية لأنى
هعمل كل شغلى اللى جاى من قلبى، مش لمجرد إنها طلبات السوق والسوق عاوز كده،
وعلشان كده عملت شركتى وهنتج كل حاجة طالعة من قلبى».
من أصول جزائرية لكنه مصرى حتى النخاع.. وأسرته
سر نجاحه
ولد أحمد مكى فى الجزائر لكنه جاء إلى مصر فى طفولته، فأبوه جزائرى وأمه مصرية، انفصلت الأم عن الأب وعادت إلى القاهرة، وبالتحديد فى حى الطالبية بالهرم، يقول مكى إنه ابن أسرة ممزقة وله أشقاء فى مصر والجزائر، وقال إن هذه النشأة كانت سرًا فى تميزه وحمايته، لأنه كان المسئول الأول عن أمه، وبالتالى حمى نفسه من الوقوع فى الكوارث التى وقع فيها أصدقاؤه فى المنطقة من إدمان لسجن وموت، وهى القضية التى شغلته كثيرًا وقدمها فى أغنيته «قطر الحياة».
نفس الأمر حين تزوج وأنجب ابنه الوحيد أدهم، فقد
انفصل عن زوجته وقال إن استمرار التفاهم من أهم المسببات لاكتمال العلاقة بين
الرجل والمرأة، وأنه يشعر براحة أكبر الآن قد لا تجعله يفكر فى الزواج مرة أخرى،
لأنه ينشغل بعمله وبما سيقدمه فى الفترة المقبلة.
وعن تجربة طلاقه زوجته فى ٢٠١٣، قال: «الطلاق حق
مشروع، لكن المهم أن الأطفال لا يتعرضون لأذى بعد الانفصال عن الأم، فأنا أحتوى
ابنى دائمًا، فأنا لا أريد أن أكرر معه نفس تجربتى مع أبى، إذ كان يعيش فى
الإمارات بينما أعيش أنا فى مصر، وأنا دائمًا معه، وأعلّمه، وأحاول دائمًا أن
أعوضه ولا أغيب عنه، بل أنا موجود فى حياته باستمرار».
مُخرج وكاتب ومُغنى راب.. والممثل فى المرتبة
الأخيرة
اختار أحمد مكى السينما، وبالتحديد عندما شاهد
فيلم «قلب شجاع» لميل جيبسون، فهذا الفيلم هو الذى دفعه لدراسة الإخراج فى معهد
السينما. يعتبر أحمد مكى نفسه مخرجًا أولًا ثم كاتبًا ومغنى راب فى المرتبة
الثانية، ويأتى الممثل فى المرتبة الأخيرة، وقد اعترف بأنه لم يرغب فى التمثيل لكن
متطلبات السوق أخذته إلى هذا الطريق، وأن فترة مرضه كانت وقفة بالنسبة له ليعيد
حساباته فى أشياء كثيرة، ومنها التمثيل.
وما قاله «مكى» فى هذا السياق مفهوم، فقد مر
بإحباطات كثيرة فى عالم الإخراج، فأول أعماله التى قدمها فيلم «الحاسة السابعة»،
وهذا الفيلم تعرض لمشكلات إنتاجية كثيرة، للدرجة التى جعلت الناس لا تشعر بوجوده
فى السينما، كما تم حذف العديد من المشاهد التى دمرت الفيلم، ومع ذلك نجح الفيلم
جماهيريًا فى التليفزيون بعد عرضه.
وقال «مكى» : «لما تكون مخرج المسألة بتبقى صعبة،
وخاصة لو مخرج لسه جديد، بتبدأ تقدم تنازلات كتيرة، علشان كده الفيلم تعرض لتدمير
وناس كانت بتسألنى: هو الفيلم منزلش ليه؟ مع إن الفيلم المفروض كان معروضًا بقاله
٥ أسابيع فى دور العرض، لكن للأسف كان المعروض ٢٠ نسخة على مستوى مصر كلها».
وأضاف: «هنا شعرت بالإحباط، وكان التوجه للتمثيل
ربما حدث بقوة الدفع دون أن أدرى وربما هى إرادة من الله أن أكون هنا فى نفس
المكان، لكن ما زلت أصنف نفسى كمخرج أولًا ثم مؤلف ومغنى راب ثانيًا، ويأتى
التمثيل فى المرتبة الأخيرة، لأنه لم يكن من ضمن أحلامى ولا ما أتمناه، وربما
تجربة المرض هى ما جعلتنى أتوقف قليلًا لأراجع نفسى وحساباتى وأقدم ما أريده وما
أستمتع به».
«الكبير وحزلقوم وجونى
ودبور».. شخصيات عميقة من ابتكاره
لا يتصور كثيرون أن الشخصيات الكوميدية التى قدمها «مكى» هى شخصيات وراءها عمق كبير ومعنى أكبر، ولأنها شخصيات تم تقديمها بصدق عاشت وستعيش فى أذهاننا، وما يفعله «مكى» فى كتابة هذه الشخصيات هو الذى يجعل فنه يعيش، بل يجعلنا نفصل بين كل تلك الشخصيات وشخصه.
يقوم «مكى» بكتابة تاريخ لهذه الشخصيات، يصل إلى
٤٠٠ صفحة، يجعل لها جذورًا وحياة وسمات وعائلة، ثم بعد ذلك يقدم ملخصها على
الشاشة، يقول: «أنا بكتب لكل شخصية تاريخًا، من يوم الميلاد حتى اللحظة التى يراها
الجمهور على الشاشة، حتى أستطيع أن أستخرج منها ألفاظًا خاصة بها، ولازمات لها،
وفعلًا حركيًا وانفعالات خاصة بها، وحتى أيضًا أحدد مشيتها ونبرة صوتها وطريقة
كلامها، لذلك كل شخصية أقدمها مختلفة تمامًا عن أى شخصية أخرى».
و«مكى» صادق فيما يقوله، فإذا نظرنا على سبيل
المثال بعمق إلى شخصية «دبور»؟، فنحن أمام شباب من طبقة ثرية، لكنه مهمش لا قيمة
له، وحيد، لكنه قرر أن يتغير مع دخوله الجامعة، فحاول أن يصنع لنفسه شخصية وسط
زملائه، فأصبح كالطاووس، منتفخًا، رغم خوائه، قدم نفسه للمجتمع كمجنون، ويفتعل
التحدث بصوت عال؛ كى يلفت الانتباه، هو إنسان طيب يبحث عن قيمته ونفسه.
يقول «مكى» عن هذه الشخصية: «بالنظر لشخصية دبور
هو شخص غلبان، قرر ينزل الحارة الشعبية، ولقى كل صحابه من الطبقة الثرية فشنك،
واكتشف أنه منفوخ على الفاضى، معندوش أى مهارة، وأن الحياة كلها فانية، وفيه حيوات
تانية كلها تضاد».
وأضاف: «هذه الشخصية بالتحديد كان لها السبق فى
تاريخ السينما المصرية، لأن الناس لأول مرة تصدق شخصية من الطبقة الغنية، لأن فى
الغالب دائمًا يصدق الجمهور ولاد البلد وتكون البطولة لهم، مش العكس».
يوسف الرفاعى.. الموهوب يحقق حلمه
بالوقفة التى اختارها وحددها أحمد مكى لنفسه بعد
تجربة مرضه، قرر ألا يقدم شيئًا خارجًا عن إرادته الفنية، فقد أدرك شيئًا مهمًا،
أن الفن استمتاع، والاستمتاع يتحقق بما يريده عقلك وقلبك.
شخصية الضابط يوسف الرفاعى هى العودة الحقيقية
الأولى لأحمد مكى، التى قرر فيها أن يقدم كل شىء من قلبه، شخصية جريئة غير معتادة
أن يقدم عليها كوميديان، لكنه «مكى» الذى يعرف نفسه دائمًا بأنه شخص مغامر ومقامر
ويتحدى نفسه ليدهش الجمهور.
يقدم «مكى» شخصية الضابط يوسف الرفاعى بأداء هادئ،
وانفعالات صادقة، جعلت الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعى يتفاعل معه، ناسيًا أن
الذى يقف أمامهم هو الكوميديان الشهير.
هو موهبة كبيرة، تستحق الإشادة، تستحق الكثير،
تستحق الحب، تستحق بالفعل أن تكون فى مقدمة الصفوف الأولى فى موسم رمضان ٢٠٢١.