JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

recent
عاجل
Startseite

عباس فارس.. الصوفي الذي ترك المدرسة من أجل المسرح


 

تخيل معي أن الفنان عباس فارس، بوجهه العابس الصارم، وعيونه المتجهمة، كان يقف في ميادين القاهرة الرئيسية في منتصف الثلاثينيات، يعظ الناس ويهديهم إلى سواء السبيل، بل كان يصول ويجول في القطارات من محافظة إلى أخرى، يأمر بالمعروف وحب الله وينهي عن الخمر والمنكر. 

ولم يكن ذلك قبل عمله ممثلًا، بل كان في عز شهرته في المسارح والأفلام، وكان وقتها واحدًا من الأعمدة الرئيسية لفرقتي فاطمة رشدي وجورج أبيض، لكن في هذه الفترة أصيب المسرح بركود وكساد ولم تفلح الدولة في إغاثة الفنانين، فاعتزل العمل مؤقتًا ليعود إلى جذوره التي كانت غارقة في الروحانية الصوفية منذ النشأة، والتي عاش ومات عليها حتى وفاته في مثل هذا اليوم 13 فبراير 1978. 

وتاريخ ولادة عباس فارس مختلف عليه، لكن في الأغلب أنه ولد في نهاية القرن التاسع عشر، في 27 ديسمبر 1899، بحي درب الجماميز في حارة الدالي حسين، وبحكم هذا المكان التاريخي في قلب القاهرة، وما به من مساجد ومعالم إسلامية شهيرة، كانت نشأته ذات طابع ديني، فألحقه والده بالكُتاب وعمره أربع سنوات، ثم المدرسة الخيرية الإسلامية بنفس الحي.

 ولم يعش والده كثيرًا، ترك ابنه عباس في سن العاشرة، وعاش الابن مع والدته ووالدها الذي كان عضو مجلس شورى القوانين واسمه محمود الناصح، وأظهر عباس منذ الطفولة تفوقًا في المدرسة لكن هذا التفوق لم يدم عندما عرف طريق الفن ولبسه شيطان المسرح، فأهمل دراسته وترك المدرسة نهائيًا. وهذه القصة يحكيها عباس فارس بنفسه في لقاء إذاعي قديم مع الإعلامي طاهر أبو زيد، يقول إن المدرسة أخذته مع الطلاب لرحلة إلى الأوبرا لمشاهدة مسرحية "فاوست" وانبهر بما شاهده، قال: " فرجعت مغرم بالممثلين على المسرح، اللي عمال يجعر وكان بينعر ورجعت على المدرسة وقدام الأساتذة أقعد أنعر زيهم، فجاء حضرة الناظر ندهلي: تعالى يا أفندي.. بتعمل إيه؟ قلتله: بنعر يا أستاذ، فقاللي: بس ده ممنوع في المدرسة". 

ورغم تحذير الناظر له، إلا أنه كرر نفس الأمر عندما ذهب لمشاهدة مسرحية "عطيل" لفرقة جورج أبيض، وعاد إلى المدرسة ليصرخ: "إلى الوراء.. إلى الوراء" بنفس أداء المسرحية، وهنا قررت المدرسة رفده نهائيًا. ترك عباس فارس المدرسة، والتحق بفرقة جورج أبيض وهو صغير، ولاقى الويلات من أهل والده ووالدته، وقال إنه لا يحب أن يتذكر هذه الفترة، لأن هاجس الفن أعماه عن كل شيء حوله، ولم يكن يرى سوى المسرح.

 اكتشفه جورج أبيض عندما ألقى عليه مقطعًا من مسرحية "عطيل"، وأعجب جورج بموهبة الشاب الصغير، وبصوته وحنجرته، ولم يستمر في الفرقة سوى عامين وقامت الحرب العالمية الأولى وتوقفت الفرقة، فالتحق بفرقة منيرة المهدية وعمل معها ومع الشيخ سلامة حجازي. وتوهج عباس فارس في هذه الفترة والتحق أيضًا بفرقة عزيز عيد وسافر معها للشام وفلسطين، ثم عاد بعد فترة لفرقة جورج أبيض، والتحق بعدة فرق مثل فرقة فاطمة رشدي، وقام هناك بأعظم أدواره المسرحية التي جعلت الموسيقار محمد عبد الوهاب يختاره بنفسه ليكون معه في أولى أفلامه "يوم سعيد" من إخراج محمد كريم، والذي كان بالمناسبة أول ظهور سينمائي للطفلة فاتن حمامة.

 ومن الطرائف التي يحكيها عباس فارس عن نفسه عندما سافر إلى حلب لتقديم مسرحية "صلاح الدين" مع جورج أبيض، طلب منه جورج أن يبدّل دوره مع ممثل آخر في آخر لحظة، وتوتر بسبب هذا القرار المفاجئ، لدرجة أنه أخطأ في آيتين قرآنيتين في أحد المشاهد، فقال: "ويخلق ما تعلمون"، ونسي حرف "لا"، ثم أضاف الحرف لآية أخرى وهي: "لآيات لقوم يعقلون" وجعلها "لا يعقلون"، وهاج الجمهور عليه وغضبوا وهرب منهم بعد العرض. 

ورغم هذا الخطأ، كان عباس فارس صوفيًا، مشحونًا بالنزعة الدينية منذ نشأته وحتى نهاية عمره، وألقى البوليس القبض عليه في منتصف الثلاثينيات لأنه كان يقف في الميادين الرئيسية يدعو الناس بالموعظة الحسنة ويخطب فيهم وهو مجموعة من الدراويش، لكن البوليس كان يتركه عندما يعرف حقيقته ومن هو. 

وحياته الشخصية كانت غامضة ولا يتحدث فيها، لكن المعروف أنه عندما سافر إلى لندن في نهاية الثلاثينيات، وانبهر هناك بمكتبة جامعة كامبريدج بما فيها من أمهات كتب الصوفية، وتعرف هناك على سيدة بريطانية وأحبها، وتزوج منها واعتنقت الإسلام من أجله، وأنجب منها ابنه الأكبر "جمال"، وعندما توفت، تزوج من شقيتها وأنجب منها ابنه "إسلام" وجعلها أيضًا تعتنق الديانة الإسلامية مثل شقيقتها الراحلة. في النهاية، كان عباس فارس ممثلًا قديرًا، متمكنًا، تستحق حكايته أن تروى ويعرفها الأجيال، فهو واحد من آباء التمثيل الأوائل، مدرسة حقيقية في التعبير وقدرته الفائقة على التحول في كل شخصياته التي قدمها ببراعة وإتقان عميق من الأب الحنون إلى الشرير الغامض، إلى الشخص المجنون، للبلطجي، والفقير والغني. بكل تأكيد سيظل هذا الفنان محفورا بأحرف من ذهب في تاريخ السينما والمسرح

author-img

محمد محمود ثابت

Kommentare
    Keine Kommentare
    Kommentar veröffentlichen
      NameE-MailNachricht