العلاقة بينه وبين الحقيقة كانت غريبة.. يعرفها منذ الطفولة، لكنه لا يثق بها.
ويعرف أن اسمه "يحيى"، لكن الاسم شيء، واليقين شيء آخر. كل ما في الأمر أنه ضابط، أرسلوه إلى مهمة، ولم يأت بعد من المهمة، ولم يسأله أحد متى سيعود، ولا كيف حاله.
ولا لماذا لم يمت!.
لا يعرف إن كان ما يفعله هو بطولة.. أم خيانة.
لا يعرف إن كانت يده التي تبيع المخدرات، هي ذاتها اليد التي كتبت ذات يوم في دفاتر الشرطة: "القانون فوق الجميع".
ولا يعرف إن كان القتل الذي ارتكبه، جريمة.. أم واجب وطني.
ولا يعرف إن كان ما يكتبه في تلك التقارير، سيصل.. أم أنه وحده الذي ما زال يكتب.
كل شيء حوله يتغير.. الشارع، الأصوات، وجوه العصابة، الشقق التي يدخلها، النساء اللواتي يبتسمن له، والرؤساء الذين نسوه.
كل شيء يتغير.. ما عدا الخوف.
الخوف هو الشيء الوحيد الذي رافقه منذ البداية، لم يفارقه حتى في نومه، ينام ومعه السؤال: هل ما أفعله حقيقي؟ هل هذه حياتي؟ أم أنني مجرد شاهد على حياة لا تخصني؟
في البداية… كان يكتب الرسائل إلى "السلطة العليا"، إلى الذين أرسلوه، وطمأنوه، وابتسموا له حين قال لهم: أنا موافق.
كانوا ثلاثة قالوا له: نحن نثق بك، وقال هو: وأنا أيضا كنت أثق بي.
لكن الثقة لا تنمو في الظلام، وهو ظل في الظلام كثيرا، فقد ملامحه الأولى، تزوج، أنجب، قتل، ركض، هرب، اختبأ، صرخ، ولم يسمعه أحد. أحب، ولم يعرف كيف يظل يحب. صلى، ولم يعرف إن كانت صلاته تُقبل وهو يبيع السم.
بكى، ولم يكن هناك أحد يفسر له دموعه. ضحك، ثم نسي لماذا ضحك.
كل الذين أحبهم، سقطوا منه، وكل الذين وثق بهم، غيروا أماكنهم.
أما هو فقد ظل كما هو: في المنتصف، لا هو مجرم كامل.. ولا ضابط سابق.. ولا إنسان طبيعي. هو ظل كمهمة، ظل الورقة المنسية في ملف مغلق.
لقد تمنى، ذات مرة، أن يصحو من هذا كله، أن يقول: كفى. أن يتحدث إلى رئيسه ويقول له: لقد وصلت.
لكن الرئيس مات، والرئيس الذي بعده لا يعرفه، والرئيس الذي بعد الثالث أنكر وجوده.
وهكذا.. أصبح مثل رجل في غرفة مغلقة، يصرخ بأعلى صوته، ولا يسمعه أحد.
ثم اعتاد الصراخ.
ثم اعتاد الصمت.
لقد عاش عشرين سنة وهو يتظاهر بأنه شخص آخر.
وفي النهاية.. أصبح هذا هو الآخر نفسه.
كان يريد أن يظل ضابطا لكن المهمة طلبت منه أن ينسى، وهو أطاع ونسي.
نسي القسم، ونسي القانون، ونسي الوجوه التي أحبها ونسي أن هناك حقيقة أخرى غير التي يعيشها حتى أصبحت الكذبة هي الحقيقة الوحيدة الممكنة.
كل ما كان يعرفه، صار غريبا عليه حتى اسمه.
حتى وجهه حتى صوته حين يتكلم مع نفسه.
حتى نفسه
لقد كتب كثيرا.. كتب تقارير، كتب اعترافات، كتب أفكارا لا تليق بضابط، ولا تليق بمجرم.
كتب عن الشك، عن الصلاة، عن الدم، عن الله، عن الخطيئة، عن الضياع.
كتب وهو يعرف أنه لا يكتب لأحد، وأن الحقيقة، كما يعرفها، لم تعد مهمة.
وحين قال لصديقه القديم إنه ما زال جزءا منه ضابط شرطة.. لم يصدقه ولا هو صدق نفسه.
ربما أراد أن يقول: أنا لست تاجر مخدرات.
لكن ما الفارق؟ الناس يرونه كذلك، والقانون يراه كذلك، وهو نفسه.. لم يعد متأكدا
الوحيد الذي كان يؤمن به، موظف بسيط.. وجد الرسائل، ولم يعرف لمن يرسلها.
فظل يحتفظ بها ثم مات.
وكأن العالم كله قرر أن يتركه يتكلم وحده.
إنه لا يطلب شيئا.. لا يريد تكريما، ولا اعتذارا، ولا اعترافا.
هو فقط.. يريد أن يعرف إن كان كل هذا حقيقيا.
أم أنه مجرد دور طويل، لم يخبره أحد كيف ينهيه.
هو لم يخطئ..
لكن لا أحد بريء تماما بعد كل هذا.
هو لم يخن القسم.
لكن القسم خان روحه.
هو فقط رجل.. دخل إلى أرض كان يظن أنه سيخرج منها.
لكنه ظل فيها أكثر من اللازم، فأصبحت هي كل ما يعرفه ولم يعد يعرف كيف يعيش.. في مكان آخر